العدل سبيل استقرار البشرية








< من اجل حياة مستقيمة وناجحة فقط يجب وضع كل شيء في المكان والوقت المناسبين بتوظيف سليم وصحيح للقدرات العقلية وما تقره القيم والمعايير الاجتماعية وما جاءت به الأديان السماوية لاسيما ديننا الإسلامي الحنيف وفي ذلك يقول عز وجل"من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد" بل ويذهب ديننا إلى الاعتبار حتى بنية الإنسان وأثرها على حاله من خلال الحديث النبوي الشريف " إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته الى الله ورسوله فهجرته الى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" يعتقد البعض أن الحياة تتوقف عند كل ما يتعلق بما هو محسوس فحسب، وأنه لا علاقة بين العالم المادي والعالم الروحي، وان ما يحدث للإنسان في الحياة الدنيوية يتوقف عند حدودها فقط ، ومن يملك الإمكانيات المادية والتفوق الفكري هو الفائز والمنتصر بغض النظر عن القيم والمعايير الأخلاقية والمبادئ الإنسانية وما تقره الأديان السماوية، فنجده يستعمل كل طاقاته من أجل تحقيق حاجياته ورغباته سواء بالقوة أو بالحيل والمكائد وشتى أنواع المكر والخداع على حساب حقوق الآخرين لكن هيهات فالواقع والتجارب أثبتت أن هؤلاء الناس يصطدمون في حياتهم بمشاكل وصعوبات وأنهم لا ينعمون بالراحة النفسية ويعيشون أوضاعا غير طبيعية لا تتماشى ومتطلبات الحياة الإنسانية المبنية على التعاون والرحمة والتضامن والصدق والعدل ....الخ. إنهم انحرفوا عن الأعراف والمبادئ التي تسير وفقها المجتمعات، وتمردوا على طبيعة النفس البشرية ، وتجاوزا النظم التي تسير وفقها الطبيعة، وضربوا عرض الحائط ما أقرته الأديان السماوية، إن الله سبحانه وتعالى لم يخلق الإنسان من مكونات معدنية وبيولوجية فحسب بل زرع في هذه المكونات المادية أحاسيس ومشاعر وأفكار إضافة إلى الجوهر الأساسي المتمثل في الروح والتي بدونها لا وجود لما يعرف بالحياة أصلا، وهو جانب يبقى غامضا ومجهولا على الرغم من الأبحاث والتجارب العلمية العديدة التي تطرقت لهذا الجانب، لكن بدون نتائج علمية موثوقة، كيف وقد فصل في هذا الأمر خالق الكون منذ حوالي 14 قرن في قوله سبحانه وتعالى" ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" ولهذا تبقى الروح لغزا مجهولا ولا احد يملك الحقيقة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. لكن على الرغم من هذا الغموض فإن الروح هي الوسيلة الوحيدة والجانب الفريد الذي يعطي معنى الحياة كما نعرفها وندركها، وقد أطلقت العديد من التسميات على هذا الجانب المجهول من بينها العالم الأخر، والروحانيات، وما وراء الطبيعة، والميتافيزيقا، والعالم السفلي،...الخ، وهي تسميات تدل على غموض وجهل تام بهذا العالم، ولا احد يعلم بصفة مطلقة كيفية تأثيره على العالم المادي وما طبيعة العلاقة التي تربط بينهما. اعتقد أن الدستور الإلهي كان شاملا وجامعا لكل ما هو محسوس وغير محسوس وكل ما هو معلوم ومجهول، وهو دقيق ومحكم لدرجة يعجز الإنسان عن معرفة المقاصد والأهداف من بعض بنوده وحكمه ومقاصده بسبب عجز ومحدودية قدرات الإنسان وعدم امتلاكه للعديد من المعطيات المتعلقة بماهية الكون، كيف لا وهو عز من قائل " لو كان البحر مدادا لكمات ربي لنفذ البحر قبل أن تنفذ كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا" وهذا يثبت قطعا أن قدرات الإنسان لا تؤهله أبدا ولا تمكنه من إدراك الحقائق الغيبية حتى ولو استنجد في ذلك بأكثر الوسائل التكنولوجية تطورا، ويبقى يدور في حيز مكاني وزماني لا تتعدى حدود قدراته، لكن أعتقد أن ما جاء به الدستور الإلهي والمتعلق بتنظيم شؤون الحياة البشرية لم يأتي بصورة عشوائية وبشكل تلقائي وعفوي بقدر ما هو دقيق ومتوازن ويتناسب تماما وطبيعة المكونات البشرية فعندما نهى الله عن الفتنة مثلا، واعتبرها أشد من القتل، فإن الواقع برهن على ذلك، فكلمة واحدة قد تؤدي إلى دمار وخراب العالم بأسره، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم" الفتنة نائمة لعن الله من أيقضها" ويقول"الفتنة اشد من القتل" لما لها من تأثير سلبي كبير ليس على الفتان في حد ذاته فحسب، ولكن تنتشر كالنار في الهشيم لتطال عدد كبير من الناس، بل ويمكن أن تتسبب في تدمير العالم بأسرة، والقاتل الذي يزهق روح إنسان يعيش بقية حياته الدنيوية في التعاسة والشؤم والحسرة ناهيك عن العقاب الذي ينتظره في الحياة الآخرة، أما إذا كان القتل عن ظلم وبدون وجه حق، فتلك الطامة الكبرى وفي ذلك يقول عز من قائل" من قتل نفس بدون حق فكأنما قتل الناس جميعا"، والإنسان الذي يستعمل الخداع كوسيلة لتحقيق مآربه على حساب الآخرين ضنا منه انه كسب وانتصر وحقق فوزا عظيما، ويتباهى ويفتخر بأفعاله ويظن نفسه بأنه حدق وفطن وداهية كبير، لكن هيهات يستطيع مخادعة القانون الإلهي ونظام سير الطبيعة، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى"يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون"، إن شعور هؤلاء الناس منعدم تماما لذلك لا يدركون أن ما يقومون به ليس في صالحهم بل يعود عليهم بالوبال والخسران المبين في الدنيا والآخرة. اعتقد أننا بحاجة لإعادة النظر في بعض مفاهيم الحياة والعمل على تصحيح البعض من أفكارنا وطرق نظرتنا للكثير من المسائل الدنيوية حتى نتمكن من مسايرة القواعد الكونية والنظم الطبيعية والدساتير الإلهية لندرك ونحقق الغاية المثلى من الحياة وهي السعادة الإنسانية، وهذا لن يتأتى إلا من خلال استثمار العقل والعاطفة معا بشكل صحيح ومناسب للمواقف التي تصادفنا في حياتنا اليومية، فالعقل يسمح للإنسان بمعالجة الأمور بنوع من المنطق والموضوعية من خلال التدقيق والتحقيق في جميع المعطيات حتى يكون الحكم عادلا ومنصفا سواء مع نفسه أو مع الآخرين، وهذا يمر حتما عبر تنقية وتصفية النفس من الغرائز والأهواء والنزعة الذاتية المفرطة وان ينظر للآخر كنظرته لنفسه امتثالا لقول الرسول عليه الصلاة والسلام "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، والعاطفة ميزة طبيعية أساسية في حياة الإنسان وخاصة في ربط العلاقات الإنسانية الحميدة، والشعور بأفراح وأحزان الآخرين والوقوف بجانبهم ومساعدتهم والتضامن معهم، لكن لا يجب أن تخرج عن إطارها الطبيعي الصحيح لدرجة هيمنتها أو إلغائها لوظيفة العقل لتصبح حجة للتمييز والمفاضلة لشخص على حساب آخر، فهنا قد تصبح نوع من العنصرية والتعصب والظلم، وهذا ما هو شائع في سلوكيات البعض من الناس متمسكين في ذلك ب " والأقربون أولى بالمعروف" ومتجاهلين قوله سبحانه وتعالى" وخلقناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم". إن الإنسان يمر في حياته عبر العديد من المحطات والمراحل بداية من الولادة إلى الوفاة، وكل مرحلة منها لها خصائصها ومميزاتها وهذا ما أقرته وأثبتته أبحاث العلماء والمختصين، ففي مجال النمو النفسي قسم العلماء الجهاز النفسي إلى ثلاثة أنواع وهي الهو، والانا، والانا الأعلى، وتصل درجة نضج قدرات الإنسان إلى أوجها في مرحلة "الأنا الأعلى" أين يستطيع أن يميز ويفكر ويعرف النظم التي تسير وفقها المجتمعات، وهنا فان الشخص يتحمل عواقب سلوكياته سواء كانت سلبية أو ايجابية ولا وجود لمبرر يغنيه عن هذه المسؤولية حتى أن الله يحاسبه على ذلك بالثواب أو بالعقاب طبقا لقول رسول الله"رفع القلم عن ثلاث، عن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يعقل". وذهبت العديد من النظريات في المجال المعرفي إلى إقرار وجود مراحل يمر بها النمو العقلي للإنسان إلى أن يصل إلى مرحلة التفكير المجرد والتحليل العقلي المنطقي للأشياء وغالبا ما تكون خلال مرحلة المراهقة، وهنا تسقط كل الحجج والمبررات عن السلوكيات التي تصدر عنه ويصبح المسئول الوحيد عنها ويتحمل تبعاتها في الدنيا ويحاسب عليها في الآخرة. إن ما يشهده العالم اليوم من نزاعات وتوترات لم يكن بمحض الصدفة ولم يأتي من فراغ، بل حدث بفعل عوامل وأسباب منها ما هو ذاتي ومنها ما هو موضوعي، أما الأسباب الذاتية فمردها إلى أنانية الأشخاص وتغلب الأهواء والشهوات على سلوكياتهم وأفكارهم من خلال اعتبار أن كل شيء ملك لهم أما البقية فلا يحق لها حتى الحياة، ويعملون المستحيل لتهميشهم واحتقارهم وحتى إبادتهم عن بكرة أبيهم والدليل ما يحدث في غزة بفلسطين من مجازر تقشعر لها الابذان راح ضحيتها أكثر من 25000 إنسان في مدة زمنية لم تتجاوز أربعة أشهر وأكثر من 60000 جريح والذين اغلبهم من الأطفال والنساء والعجزة. وهذا يحدث في عصر اعتقدنا فيه أن الحضارة الإنسانية قد قطعت أشواطا كبيرة نحو احترام حقوق الإنسان واحترام الآخر والابتعاد عن التمييز العنصري وتقبل الآخر بغض النظر عن عرقه او جنسه او دينه وتنشط في هذا المجال العديد من المنظمات والهيئات الحكومية وغير الحكومية من اجل السهر على تطبيق هذه المبادئ الإنسانية السامية، لكن للأسف الشديد فالدولة التي تتغنى بالدفاع عن هذه المبادئ وتدعي التقدم والرقي وتحمي حقوق وحريات الإنسان هاهي تستعمل حق الفيتو أمام مجلس الأمن من اجل استمرار القتل والدمار والإبادة الجماعية لشعب بأكمله. وعليه إذا أردنا حقا أن ننعم في الحياة الدنيا ونتمتع بالسعادة الحقيقية، علينا أن نعرف كيف نوظف القدرات التي انعم بها الله علينا ونضعها في إطارها الصحيح وان نستخلص العبر والدروس من تجارب الحياة ونحترم النظم الطبيعية وما جاءت به الأديان السماوية ونحاول قدر الإمكان أن نطبقها في سلوكياتنا اليومية سواء كانت أفعالا أم أقوالا، ونعمل على مراجعة وتصحيح أخطائنا بشكل يومي ومنتظم حتى نتفادى ما يمكن أن يلحق الضرر بالآخرين والذي نكون نحن أول ضحاياه لأننا جزءا لا يتجزأ من المجتمع وحالنا مرهون حتما بأحوال المجتمع والإنسانية جمعاء . 

 الاستاذ: نورالدين بولفخاد

Commentaires

Articles les plus consultés